ارشيف الذاكرة .. أول عمل احتجاجي أشارك فيه .. احتجاج على الجوع
يمنات
أحمد سيف حاشد
كثير ما يستفزني الفقر و الجوع و الظلم و الفساد و الاستبداد بكل صنوفه حتى و إن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد أو القديس أو الكاهن .. و يستفزني أكثر غرور السلطة و عنادها و خواء التعالي و الاستكبار في وجه الحق، و لم اعتد الظلم لأهوّن منه، و أتصالح معه، مهما طالت سنينه، و لا أتسامح معه، و أنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو اسقاطه أو التحرر من ربقته..
روحي لا تهدأ و لا تستكين، و تظل دوما متحفزة للتململ و التمرد و الثورة، مسكونا بعدم الرضى، حتى و إن لذت بالصمت، أو شعرت بخذلان، أو تعاميت مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصني، فإنني أعيش صراع داخلي أقوى، و أكثر احتداما مع ضميري، و تأنيب الضمير، حتى أعود إلى الصواب و الصحيح ما أمكن..
أشعر أحيانا بالتعب و الضنك، و لكن ما أن أستريح قليلا أو استرجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين و ثلاث .. أعود إلى إعلان الرفض، و فعل التمرد، و المقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى الزوال، أو أظل أخوض معها صراعا كقدر .. و أحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى و إن أكلته الدود، و أصطف مع المضطهدين في مقاومة من يصنع ذلك الاضطهاد و الظلم الثقيل..
ربما أبدو قلقا على الدوام، و غير راضي على سير الأحوال، بل و ربما ساخطا على هذا العالم الدامي، و نظامه المرتكز على الظلم و الاستغلال، و ثائرا في وجه الأقدار التي أشعر إنها غير عادلة .. كل ذلك أدركته اليوم مليا، و ما كنت أدركه فيما خلا، و كانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه..
في مدرسة “البروليتاريا” و بسبب الجوع، و احتجاجا على غياب التحسين في وجبات الغذاء، و انقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، و كنت واحدا منهم..
امتنعنا عن الدراسة، و خرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء و المطالبة بتحسينه .. قطعنا الطريق بين لحج و عدن بالحجارة و منعنا عبور السيارات و هو عمل جريء في ذلك الوقت، و شديد الحساسية عند السياسيين؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، و يذهب السياسيين إلى تفسير الاحتمالات و الأسباب فوق ما نطيق و نحتمل، بل و فوق ما يطيقه و يحتمله الواقع، و لكن ربما وجود طلاب محتجين من الضالع و ردفان و الصبيحة درأ عنّا العواقب، وحد من المبالغة في تفسير احتمالات و أبعاد هذا الاحتجاج.
كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج و امتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، و بعضهم وهن بعد يوم أو بضع يوم، و بعضهم آثروا السلامة، و تحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة و الوقوع، إن لم يكن غير المسبوق..
زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة بالمأكل و المسكن … و قد اطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الواقعة، و قد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين للطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن..
كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين .. كنت معجب بأولئك “المجانين” الذين رفضوا الظلام، و نازلوا الجوع، و تحدوا عواقبه..
كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط و ازدراء .. كنت أسأل نفسي لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، و لا يسخطون على الجوع و القائمين عليه..؟!!
كنت معجبا بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، و يحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..
كان المسؤولون في المحافظة و لا سيما في التربية و التعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات و تأثير تلك الاحتجاجات عليهم، و على مناصبهم و وظائفهم..
نزل المسؤولون عن التربية و التعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب و يسمعوا مطالب المحتجين و مناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم و ثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، و إرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.
لم نهدأ و لم نكف عن الاحتجاج إلا بعد حضور علي عنتر و الذي نجح في تهديتنا عندما قال: “تروحوا أسبوع و ترجعوا على اكل حسين و نظيف” و أمر بتحضير “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين و المتذمرين كلاً الى مديريته و العودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبر الأمور، و تحقيق مطالب المحتجين..
العمل الاحتجاجي من هذا النوع و ضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج و في تلك الفترة شديدة الحساسية كان عمل جريء و مقدام بكل المقاييس..
أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية و تعمل من أجل إقامة دولة “البروليتاريا” عمل ربما يكشف هشاشة بعض ذلك الادعاء.
أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية و النظافة و التنظيم و استعادة الكهرباء المقطوعة .. و كان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.
***
يتبع..
قراءة خارج المناهج الدراسية
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.